النزيف الصامت: الهجرة في الريف وتحدي المستقبل الديموغرافي.. الجالية هي “الجوكر”

ريف360 – إلهام دوسلدورف
لطالما كان ريف شمال المغرب، بأقاليمه مثل الناظور والدريوش والحسيمة، منارة للتاريخ وموطنا للعزيمة. لكن هذه الأراضي، التي عرفت بصلابة أهلها، تشهد اليوم نزيفا ديموغرافيا صامتا يهدد جوهرها ومستقبلها. إنها ظاهرة الهجرة التي تستنزف طاقات شبابها، تاركة وراءها مجتمعا يشيخ، وتساؤلات كبرى حول من سيحمل شعلة التنمية غدا.
لا يمكننا أن نحمل الشباب المسؤولية الكاملة عن هذا النزيف. فالقرار بالهجرة، وإن كان محفوفا بالمخاطر، هو في الأساس بحث مشروع عن آفاق أفضل. يرى كثيرون في الهجرة فرصة للتحرر من قيود البطالة وشح الفرص، سعيا وراء تعليم نوعي أو عمل كريم يضمن لهم ولأسرهم العيش بكرامة. إنها ليست خيانة للأرض، بل هي استجابة منطقية لواقع يفتقر إلى البدائل التي ترقى إلى مستوى طموحاتهم. إن استمرار هذا التهميش الاقتصادي هو الوقود الذي يغذي هذا النزيف.
لكن المأساة لا تكمن فقط في رحيل الأفراد، بل في تأثيره المتراكم على المجتمع. فمع كل شاب يغادر، تفقد المنطقة عنصرا فاعلا في دورة الإنتاج، وركيزة أساسية في نسيجها الاجتماعي. تتناقص الفئة العمرية القادرة على الإبداع والعمل، وتزداد نسبة كبار السن، مما يهدد بتغيير هيكلي في التركيبة الديموغرافية للريف. يصبح السؤال الذي يلوح في الأفق: من سيبني مدارس الحسيمة، ويدير مشاريع الناظور، ويزرع أراضي الدريوش حين لا يبقى هناك من يحمل هذه المسؤولية؟
هنا يأتي الدور التاريخي لنخب المنطقة. إن نضالهم اليوم لا يجب أن يقتصر على المواقف السياسية أو الخطابات، بل يتجاوز ذلك إلى التزام حقيقي بمعركة التنمية. عليهم أن يكونوا القوة الدافعة التي تحول الإمكانيات الكامنة في الريف إلى مشاريع حقيقية، وأن يعملوا على جذب الاستثمارات، وتشجيع المبادرات المحلية، وخلق بيئة تحفز الشباب على البقاء والعطاء. لا يمكن أن تستمر المنطقة في فقدان أبنائها بينما يمتلك قادتها وأثرياؤها القدرة على إحداث الفارق.
الجالية: رأس مال ينتظر العودة
في خضم هذا التحدي، تبرز فرصة ذهبية قد تكون مفتاح الحل، وهي الدور الفاعل الذي يمكن أن تلعبه الجالية المغربية المنحدرة من الريف. إن هؤلاء المهاجرين، الذين بنوا ثروات وخبرات خارج الوطن، يمثلون رأسمال بشريا وماليا هائلا. إن عودتهم، ولو على شكل استثمار في مشاريع إنتاجية، يمكن أن تشكل شريان حياة جديدا للمنطقة. من خلال توجيه رؤوس أموالهم نحو قطاعات حيوية كالزراعة العصرية، أو السياحة البيئية، أو الصناعات الصغيرة، يمكنهم ليس فقط تحقيق أرباح، بل خلق فرص عمل مستدامة للشباب، وإيقاف النزيف الديموغرافي من مصدره.
إن الحل لا يكمن في إغلاق الحدود، أو تحميل الأفراد مسؤولية ظروف لم يختاروها. بل يبدأ بفهم جماعي عميق للمعضلة، وتكاتف الجهود لإيجاد حلول جذرية. على أبناء الريف، من الداخل والخارج، أن يجمعوا طاقاتهم لبناء توجه استراتيجي جديد يجعل من المنطقة وجهة للاستثمار والإبداع، لا مجرد نقطة انطلاق للهجرة. المستقبل الديموغرافي للريف رهين بقدرتنا على تحويل هذا النزيف إلى تدفق من الفرص والأمل.